أزواج فى حياة أم كلثوم
شىء من فتنة العالم وبهائه ومكامن أسراره يظل قائمًا على هامة الأنثى، ومعقودًا على ناصيتها، الأمر ليس سبك الخصوبة واستمرار النوع فى طينة حضورها وحسب، ليس اقتسامها للعالم وهيمنتها على مقدرات نصفه الآخر، فالمعنى أعمق ومجال الرؤية أوسع وقوس الدلالة مفتوح على آخره، الأنثى تبسيط لمادة العالم واختزال لمفاتيحه ومثيرات فعله ومحركات تفاصيله ومادته الدرامية، الأنثى فى المجمل وكعنوان عريض، فما بالك إن حضرت الأنثى حضورًا استثنائيًّا، وكانت بين جنسها كالجنس نفسه بين مخلوقات الله، مركزية داخل المركز، ومتنًا فى لُبّ المتن، لا شكّ سيكون الحضور قداسة، والغياب قداسة أيضًا، والبهاء هالة نورانية توشّى الخطى أينما حلّت، وعلى هذا ما زالت كوكب الشرق تُكحّل عيون محبّيها، وتهذّب آذانهم وتنثر فيها الورد والياسمين، على هذا ما زالت حاضرة ككوكب درىّ فى عين المجرة وفى أحداق الناس.
قبل أربعة عقود من اليوم – فى الثالث من فبراير عام 1975 – قررت كوكب الشرق أم كلثوم التحلل من ربقة الطين، ودخول مدارات الأثيرية الشفيفة، والحلول والاتحاد فى جسد الخلود، فكان الرحيل الأسطورى، بعد 77 سنة من التحقق الفيزيقى، إيذانًا بمنعطف فى مسار الأسطورة وبنيتها، ولعلّها الاستثناء الوحيد الذى يكتسب أرضًا فى جغرافيا القاعدة كلما تطاول الزمن ومرت السنون، لعلّها الاستثناء الوحيد الذى يقاس عليه، فنًّا وإبداعًا وذكاء اجتماعيًّا وإنسانيًّا، وروحًا سرمديّة محلّقة فى سماوات لا تدانيها العين ولا تجهلها، فالسيدة التى نذرتها المواقيت لإسهام فوق طاقات الناس، عبرت محطات الرحلة ومفاصلها عبورًا سلسًا وواثق الخطى، كصوفى يتمشى فى امتحانات الله، من القرية إلى الموالد والحفلات الشخصية، إلى المدينة والحدائق والصالات والإذاعة والسينما والتليفزيون.. رحلت إبداعية تاخمت العقود السبعة، وجاوزت الطبيعى والمعهود، وكثّفت ميراث الجمال والفتنة فى بضع مئات من القصائد والألحان والحفلات، وفى 6 أفلام، وفى أجيال وطوابير من المحبين والمستمعين الذين تربوا فى أبهاء وفراديس الحنجرة المطلقة، وطوابير من الشعراء والملحنين والموسيقيين والعشاق الذين تربّوا أيضًا فى رياض صوت كوكب الشرق أم كلثوم، وفى جحيم محبّتها.
رجال لوّعهم عشق الستّ
لم تكن كوكب الشرق أم كلثوم امرأة فاتنة بمقاييس الأنوثة والجمال المصكوكة فى عصرها، كانت أنثى عادية كملايين النساء، ولكنها كانت تحمل حصّة كبيرة من خام وجوهر الفتنة والغواية عبر حنجرتها وصندوق أحبالها الصوتية، وهو الصندوق الذى اجتذب كثيرين من الشعراء والملحنين كما تجتذب النار الفراشات، فعاش كثيرون من الرجال يدورون فى فلك أم كلثوم، وبعضهم أنفق العمر والأيام وقصائد الشعر ونغمات الموسيقى لقاء محبّتها، ولعلّ أشهر من سجّلوا أسماءهم فى دفاتر العشق واللوعة، كان الموسيقار والملحن الكبير محمد القصبجى، والشاعر الكبير أحمد رامى.
تعرف محمد القصبجى على أم كلثوم فى بدايتها الفنية، وتعهّدها بالرعاية والتأسيس الفنى، فكان مرشدها الأول ومعلمها الأمين، وأحد ملحّنيها المهمين، كما أسس لها أول تخت شرقى يصاحبها فى حفلاتها، واستمر فى عزف العود ضمن أفراد التخت لسنوات طويلة، وهو ممن أحبوا أم كلثوم واكتفوا بالاقتراب من الضوء دون الوقوع فى حماه، محافظًا على حبّه وعلى علاقته بكوكب الشرق أم كلثوم فى الآن ذاته.
كذلك تحضر فى هذا السياق قصة الشاعر الكبير أحمد رامى، الذى تعرفت عليه أم كلثوم بعد أن غنّت له قصيدة “الصب تفضحه عيونه” فى أواخر عشرينيات القرن العشرين، وكان عائدًا من أوروبا حديثًا، وطوال المرحلة التالية تصاعدت علاقتهما الإنسانية، وتورّط رامى فى حب أم كلثوم، فحاول الاقتراب منها، لهذا كان عونها فى معرفة الشعر والشعراء وفى اختيار كلمات أغنياتها والقصائد التى تشدو بها، وبينما كانت مشاعره واضحة للجميع، ولأم كلثوم بالطبع، ظلت العلاقة من جانبها علاقة باردة تحافظ على أحمد رامى إنسانيًّا وتستفيد منه إبداعيًّا، بينما ظل أحمد رامى يكابد لوعة محبّته لأم كلثوم لسنوات وسنوات، حتى رثاها بعد وفاتها ولحق بها بعد وقت غير طويل.
وهناك قصة أخرى لعاشق لوّعته محبة أم كلثوم، ولكنها لم تكن طرفًا مباشرًا فى هذه اللوعة، فكان الأمر بقرار الملك فاروق وموقفه، وتعود القصة إلى إعلان شريف صبرى باشا – أحد أعمام الملك فاروق – حبّه للفنانة الكبيرة كوكب الشرق أم كلثوم، ورغبته فى الزواج منها، ولكن الملك فاروق رفض واتّخذ موقفًا من الأمر، ووقفت الأسرة المالكة ضد هذه الزيجة، وهو ما قاد إلى تراجع شريف صبرى باشا عن قرار الزواج، وابتعاده عن أم كلثوم، التى آلمها موقف الملك والأسرة الحاكمة، ولكن بالتأكيد لم يتخلص شريف صبرى باشا من حبّه لأم كلثوم ولوعته فى هواها.
رجال أحبتهم أم كلثوم
على جانب آخر من صنعة القلوب، وبينما لوّعت محبة أم كلثوم قلوب كثيرين، وتجلّت اللوعة فى أقصى صورها فى قلبى أحمد رامى ومحمد القصبجى، كان فى حياة أم كلثوم رجال أحبتهم وهامت بهم، ربما قاست اللوعة أحيانًا أو مع بعضهم، ولكنها حاولت أن تصل إلى حبّها ورجالها المرغوبين ما استطاعت، وبالفعل تزوّجت اثنين ممن أحبتهم.
كان أول حب فى حياة كوكب الشرق أم كلثوم لطبيب الأسنان والملحن الشهير والمهم أحمد صبرى النجريدى، والذى كان يمتلك عيادة أسنان فى طنطا بمحافظة الغربية، وبعد تعرفه عليها تعلّق بصوتها وآمن به، وكان أول من خلصها من العقال وملابس الأولاد، ودفعها إلى ارتداء الفساتين، كما خلصها من جوقة المنشدين، ووضع لها ألحانًا موسيقية أصيلة ومهمة إلى جانب أنها عميقة وجميلة وبعيدة عن تيارات الموسيقى السائدة وعن المبالغة فى الزخرفة الموسيقية والنغمية، وإجمالى ما لحّنه أحمد صبرى النجريدى لأم كلثوم 17 لحنًا، ومن محبّته لها ترك مهنته وعيادته الطبية وتفرغ لها، وكان يغار من أحمد رامى ومنافسته له على قلب أم كلثوم، بينما كانت أم كلثوم تحبه، وحينما طلب الزواج منها، طلبت منه أن يطلب يدها من والدها عملاً بالأصول التى تربّت عليها كفلاحة، ولكن والدها رفض الأمر، فاعتبر النجريدى الرفض إهانة وإنكار لجميله وفضله على أم كلثوم وأسرتها، فانسحب من حياتها للأبد.